الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **
ولنبدأ من ذلك بذكر الثلاثي منفرداً بنفسه ثم مداخلاً لما فوقه. اعلم أن الثلاثي على ضربين: أحدهما ما يصفو ذوقه ويسقط عنك التشكك في حروف أصله كضرب وقتل وما تصرف منهما. فهذا ما لا يرتاب به في جميع تصرفه نحو ضارب ويضرب ومضروب وقاتل وقتال واقتتل القوم واقتل ونحو ذلك. فما كان هكذا مجرداً واضح الحال من الأصول فإنه يحمي نفسه وينفي الظنة عنه. والآخر أن تجد الثلاثي على أصلين متقاربين والمعنى واحد فههنا يتداخلان ويوهم كل واحد منهما كثيراً من الناس أنه من أصل صاحبه وهو في الحقيقة من أصل غيره وذلك كقولهم: شيء رخو ورخود. فهما كما ترى شديدا التداخل لفظاً وكذلك هما معنى. وإنما تركيب رخو من رخ و وتركيب رخود من رخ د وواو رخود زائدة وهو فعول كعلود وعسود والفاء والعين من رخو ورخود متفقتان لكن لاماهما مختلفتان. فلو قال لك قائل: كيف تحقر رخوداً على حذف الزيادة لقلت: رخيد بحذف الواو وإحدى الدالين. ولو قال لك: كيف تبني من رخو مثل جعفر لقلت رخوى ومن رخود: رخدد أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماس المعنيين وذلك أن الرخو الضعيف والرخود المتثني والتثني عائد إلى معنى الضعف فلما كانا كذلك أوقعا الشك لمن ضعف نظره وقل من هذا الأمر ذات يده. ومن ذلك قولهم: رجل ضياط وضيطار. فقد ترى تشابه الحروف والمعنى مع ذلك واحد فهو أشد لإلباسه. وإنما ضياط من تركيب " ض ي ط " وضيطار من تركيب " ض ط ر ". ومنه قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى! لو لا الكمى المقنعا فضياط يحتمل مثاله ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون فعالاً كخياط ورباط والآخر أن يكون فيعالاً كخيتام وغيداق والثالث أن يكون فوعالاً كتوراب. فإن قلت: إن فوعالا لم يأت صفة قيل اللفظ يحتمله وإن كانت اللغة تمنعه. ومن ذلك لوقة وألوقة وصوص وأصوص وينجوج وألنجوج ويلنجوج وضيف وضيفن في قول أبي زيد. ومن ذلك حية وحواء فليس حواء من لفظ حية كعطار من العطر وقطان من القطن بل حية من لفظ " ح ي ي " من مضاعف الياء وحواء من تركيب " ح و ى " كشواء وطواء. ويدل على أن الحية من مضاعف الياء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم في الإضافة إلى حية بن بهدلة: حيوى. فظهور الياء عيناً في حيوى قد علمنا منه كون العين ياء وإذا كانت العين ياء واللام معتلة فالكلمة من مضاعف الياء البتة ألا ترى أنه ليس في كلامهم نحو حيوت. وهذا واضح. ولولا هذه الحكاية لوجب أن تكون الحية والحواء من لفظ واحد لضربين من القياس: أما أحدهما فلأن فعالا في المعاناة إنما يأتي من لفظ المعاني نحو عطار من العطر وعصاب من العصب. وأما الآخر فلأن ما عينه واو ولامه ياء أكثر مما عينه ولامه ياءان ألا ترى أن باب طويب وشويت أكثر من باب حييت وعييت. وإذ كان الأمر كذلك علمت قوة السماع وغلبته للقياس ألا ترى أن سماعاً واحداً غلب قياسين اثنين. نعم وقد يعرض هذا التداخل في صنعة الشاعر فيرى أو يرى أنه قد جنس وليس في الحقيقة تجنيساً وذلك كقول القطامي: مستحقبين فؤادا ما له فاد ففؤاد من لفظ " ف أ د " وفاد من تركيب " ف د ى " لكنهما لما تقاربا هذا التقارب دنوا من التجنيس. وعليه قول الحمصي: وتسويف العدات من السوافي فظاهر هذا يكاد لا يشك أكثر الناس أنه مجنس وليس هو كذلك. وذلك أن تركيب تسويف من " س و ف " وتركيب السوافي من " س ف ي " لكن لما وجد في كل واحد من الكلمتين سين وفاء وواو جرى في بادي السمع مجرى الجنس الواحد وعليه قال الطائي الكبير: ألحد حوى حية الملحدين! ولدن ثرى حال دون الثراء! فيمن رواه هكذا حوى حية الملحدين أي قاتل المشركين وكذلك قال في آخر البيت أيضاً: ولدن ثرى حال دون الثراء فجاء به مجيء التجنيس وليس على الحقيقة تجنيساً صحيحاً. وذلك أن التجنيس عندهم أن يتفق اللفظان ويختلف أو يتقارب المعنيان كالعقل والمعقل والعقلة والعقيلة ومعقلة. وعلى ذلك وضع أهل اللغة كتب الأجناس. وليس الثرى من لفظ الثراء على الحقيقة وذلك أن الثرى وهو الندى من تركيب " ث ر و " لقولهم: التقى الثريان. وأما الثراء لكثرة المال فمن تركيب " ث ر و " لأنه من الثروة ومنه الثريا لأنها من الثروة لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل. ومنه قولهم: ثرونا بني فلان تثروهم ثروة إذا كنا أكثر منهم. فاللفظان - كما ترى - مختلفان فلا تجنيس إذاً إلا للظاهر. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح المقصور والممدود عن ابن السكيت وأن الفراء تسمح في ذكر مثل هذا على اختلاف أصوله وأن عذره في ذلك تشابه اللفظين بعد القلب. ومن ذلك قولهم: عدد طيس وطيسل. فالياء في طيس أصل وتركيبه من " ط ي س " وهي في طيسل زائدة وهو من تركيب " ط س ل ". ومثله الفيشة والفيشلة: حالهما في ذلك سواء. وذهب سيبويه في عنسل إلى زيادة النون وأخذها من قوله: عسلان الذئب أمسى قارباً برد الليل عليه فنسل وذهب محمد بن حبيب في ذلك إلى أنه من لفظ العنس وأن اللام زائدة وذهب بها مذهب زيادتها في ذلك وأولالك وعبدل وبابه. وقياس قول محمد ابن حبيب هذا أن تكون اللام في فيشلة وطيسل زائدة. وما أراه إلا أضعف القولين لأن زيادة النون ثانية أكثر من زيادة اللام في كل موضع فكيف بزيادة النون غير ثانية. وهو أكثر من أن أحصره لك. فهذه طريق تداخل الثلاثي بعضه في بعض. فأما تداخل الثلاثي والرباعي لتشابههما في أكثر الحروف فكثير منه قولهم: سبط وسبطر. فهذان أصلان لا محالة ألا ترى أن أحداً لا يدعى زيادة الراء. ومثله سواء دمث ودمثر وحبج وحبجر. وذهب أحمد بن يحيى في قوله: يرد قلخاً وهديراً زغدبا إلى أن الباء زائدة وأخذه من زغد البعير يزغد زغداً في هديره. وقوله: إن الباء زائدة كلام تمجه الآذان وتضيق عن احتماله المعاذير. وأقوى ما يذهب إليه فيه أن يكون أراد أنهما أصلان مقتربان كسبط وسبطر. وإن أراد ذلك أيضاً فإنه قد تعجرف. ولكن قوله في أسكفة الباب: إنها من استكف الشيء أي انقبض أمر لا ينادي وليده روينا ذلك عنه. وروينا عنه أيضاً أنه قال في تنور: إنه تفعول من النار. وروينا عنه أيضاً أنه قال: الطيخ: الفساد قال: فهو من تواطخ القوم. وسنذكر ذلك في باب سقطات العلماء بإذن الله. ولكن من الأصلين المتداخلين: الثلاثي والرباعي قولهم: زرم وازرأم وخضل واخضأل وأزهر وازهأر وضفد واضفأد وزلم القوم وازلأموا وزغب الفرخ وازلغب. ومنه قولهم: مبلع وبلعوم وحلق وحلقوم وشيء صلد وصلادم وسرطم وسرواط. وقالوا للأسد: هرماس وحدثنا أبو علي عن الأصمعي أنه قال في هرماس: إنه من الهرس. وحدثنا أيضاً أنهم يقولون: لبن ممارص. وقالوا دلاص ودلامص ودمالص. وأنشد ابن الأعرابي: فباتت تشتوي والليل داج ضماريط استها في غير نار ومن هذا أيضاً قولهم: بعير أشدق وشدقم. وينبغي أن يكون جميع هذا من أصلين ثلاثي ورباعي. وهو قياس قول أبي عثمان ألا تراه قال في دلامص: إنه رباعي وافق أكثره حروف الثلاثي كسبط وسبطر ولؤلؤ ولآل. فلؤلؤ رباعي ولآل ثلاثي. وقياس مذهب الخليل بزيادة الميم في دلامص أن تكون الميم في هذا كله زائدة وتكون على مذهب أبي عثمان أصلاً وتكون الكلم التي اعتقبت هذه الحروف عليها أصلين لا أصلاً واحداً. نعم وإذا جاز للخليل أن يدعي زيادة الميم حشوا وهو موضع عزيز عليها فزيادتها آخرا أقرب مأخذاً لأنها لما تأخرت شابهت بتطرفها أول الكلمة الذي هو معان لها ومظنة منها. فقياس قوله في دلامص: إنه فعامل أن يقول في دمالص: فماعل وكذلك في فمارص وأن يقول في بلعوم وحلقوم: إنه فعلوم لأن زيادة الميم آخراً أكثر منها أولاً ألا ترى إلى تلفيهم كل واحد من دلقم ودردم ودقعم وفسحم وزرقم وستهم ونحو ذلك بزيادة الميم في آخره. ولم نر أبا عثمان خالف في هذا خلافه في دلامص. وينبغي أن يكون ذلك لأن آخر الكلمة مشابه لأولها فكانت زيادة الميم فيه أمثل من زيادتها حشوا. فأما ازرأم واضفاد ونحو ذلك فلا تكون همزته إلا أصلاً ولا تحملها على باب شأمل وشمأل لقلة ذلك. وكذلك لام ازلغب هي أحرى أن تكون أصلاً. ومن الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين قولهم: قاع قرق وقرقر وقرقوس وقولهم: سلس وسلسل وقلق وقلقل. وذهب أبو إسحاق في نحو قلقل وصلصل وجرجر وقرقر إلى أنه فعفل وأن الكلمة لذلك ثلاثية حتى كأن أبا إسحاق لم يسمع في هذه اللغة الفاشية المتشرة بزغد وزغدب وسبط وسبطر ودمث ودمثر وإلى قول العجاج: هذا مع قولهم وتر حبجر للقوى الممتلئ. نعم وذهب إلى مذهب شاذ غريب في أصل منقاد عجيب ألا ترى إلى كثرته في نحو زلز وزلزل ومن أمثالهم توقرى يا زلزه فهذا قريب من قولهم: قد تزلزلت أقدامهم إذا قلقت فلم تثبت. ومنه قلق وقلقل وهوة وهوهاءة وغوغاءٌ وغوغاءُ لأنه مصروفاً رباعي وغير مصروف ثلاثي. ومنه رجل أدرد وقالوا: عض على دردره ودردوره. ومنه صل وصلصل وعج وعجعج. ومنه عين ثرة وثرثارة. وقالوا: تكمكم من الكمة وحثحثت وحثثت ورقرقت ورققت قال الله تعالى: ولو قال ذلك في حرف أو حرفين كما قال الخليل في دلامص بزيادة الميلم لكان أسهل لأن هذا شيء إنما احتمل القول به في كلمة عنده شاذة أو عزيزة النظير. فأما الاقتحام بباب منقاد في مذهب متعاد ففيه ما قدمناه ألا ترى أن تكرير الفاء لم يأت به ثبت إلا في مرمريس وحكى غير صاحب الكتاب أيضاً مرمريت وليس بالبعيد أن تكون التاء بدلاً من السين كما أبدلت منها في ست وفيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: يا قاتل الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات فأبدل السين تاء. فإن قلت: فإنا نجد للمرمريت أصلاً يحتازه إليه وهو المرت قيل: هذا هو الذي دعانا إلى أن قلنا: إنه قد يجوز أن تكون التاء في مرمريت بدلاً من سين مرمريس. ولولا أن معنا مرتا لقلنا فيه: إن التاء بدل من السين البتة كما قلنا ذلك في ست والنات وأكيات. فإن قال قائل منتصراً لأبى إسحاق: لا ينكر أن يأتي في المعتل من الأمثلة ما لا يأتي في الصحيح نحو سيد وميت وقضاة ودعاة وقيدودة وصيرورة وكينونة وكذلك يجيء في المضاعف ما لا يأتي في غيره من تكرير الفاء. بل إذا كانوا قد كرروها في مرمريت ومرمريس ولم نر في الصحيح فيعلا ولا فعلة في جمع فاعل ولا فيعلولا مصدراً كان ما ذهب إليه أبو إسحاق من تكرير الفاء في المضاعف أولى بالجواز وأجدر بالتقبل فهو قول غير أن الأول أقوى ألا ترى أن المضاعف لا ينتهي في الاعتلال إلى غاية الياء والواو وأن ما أعل منه في نحو ظلت ومست وظنت في ظننت وتقصيت تقضيت وتفضيت من الفضة وتسريت من السرية ليس شيء من إعلال ذلك ونحوه بواجب بل جميعه لو شئت لصححته وليس كذلك حديث الياء والواو والألف في الاعتلال بل ذلك فيها في عام أحوالها التي اعتلت فيها أمر واجب أو مستحسن في حكم الواجب أعني باب حاري وطائي وياجل وياءس وآية في قول سيبويه. فإن قلت فقد قرأ الأعمش بعذاب بيئس فإنما ذاك لأن الهمزة وإن لم تكن حرف علة فإنها معرضة للعلة وكثيرة الانقلاب عن حروف العلة فأجريت بيئس عنده مجرى سيد وهين كما أجريت التجزئة مجرى التعزية في باب الحذف والتعويض وتابع أبو بكر البغداديين في أن الحاء الثانية في حثحثت بدل من ثاء وان أصل حثثت. وكذلك قال في نحو ثرة وثرثارة: إن الأصل فيها ثرارة فأبدل من الراء الثانية ثاء فقالوا ثرثارة. وكذلك طرد هذا الطرد. وهذا وإن كان عندنا غلطا لإبدال الحرف مما ليس من مخرجه ولا مقارباً في المخرج له فإنه شق آخر من القول. ولم يدع أبو بكر فيه تكرير الفاء وإنما هي عين أبدلت إلى لفظ الفاء فأما أن يدعى أنها فاء مكررة فلا. فهذا طريق تزاحم الرباعي مع الثلاثي. وهو كثير جداً فاعرفه وتوق حمله عليه أو خلطه به ومز كل واحد منهما عن صاحبه وواله دونه فإن فيه إشكالاً. وأنشدني الشجري لنفسه: أناف على باقي الجمال ودففت بأنوار عشب مخضئل عوازبه وأما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل. وسبب ذلك قلة الأصلين جميعاً فلما قلاَّقلَّ ما يعرض من هذا الضرب فيهما إلا أن منه قولهم: ضبغطى وضبغطرى وقوله أيضاً: قد دردبت والشيخ دردبيس فدردبت رباعي ودردبيس خماسي. ولا أدفع أن يكون استكره نفسه على أن بنى من كيف حال المثلين في الأصلية والزيادة باب في المثلين: كيف حالهما في الأصلية والزيادة وإذا كان أحدهما زائداً فأيهما هو اعلم أنه متى اجتمع معك في الأسماء والأفعال حرف أصل ومعه حرفان مثلان لا غير فهما أصلان متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو الحفف والصدد والقصص وصببت وحللت وشددت وددن ويين. وأما المنفصلان فنحو دعد وتوت وطوط وقلق وسلس. وكذلك إن كان هناك زائد فالحال واحدة نحو حمام وسمام وثالث وسالس روينا عن الفراء قول الراجز: ممكورة غرثي الوشاح السالس تضحك عن ذي أشر غضارس وكذلك كوكب ودودح. وليس من ذلك دؤادم لأنه مهموز. وكذلك إن كان هناك حرفان تسقطهما الصنعة جريا في ذلك مجرى الحرف الواحد كألف حمام وسمام وواو كوكب ودودح وذلك ألندد ويلندد يوضح ذلك الاشتقاق في ألندد لأنه هو الألد. وأما ألنجج فإن عدة حروفه خمسة وثالثه نون ساكنة فيجب أن يحكم بزيادتها فتبقى أربعة فلا يخلو حينئذ أن يكون مكرر اللام كباب قعدد وشربب وأو مزيدة في أوله الهمزة كأحمر وأصفر وإثمد. وزيادة الهمزة أولاً أكثر من تكرير اللام آخراً. فعلى ذلك ينبغي أن يكون العمل. فتبقى الكلمة من تركيب " ل ج ج " فمثلاها إذن أصلان وكذلك يلنجج لأن الياء في ذلك كالهمزة كما قدمناه. فمثلاً ألنجج ويلنجج أصلان كمثلي ألندد ويلندد. فهذه أحكام المثلين إذا كان معهما أصل واحد في أنهما أصلان لا محالة. فأما إذا كان معك أصلان ومعهما حرفان مثلان فعلى أضرب: منها أن يكون هناك تكرير على تساوي حال الحرفين. فإذا كانا كذلك كانت الكلمة كلها أصولاً وذلك نحو قلقل وصعصع وقرقر. فالكلمة إذاً لذلك رباعية. وكذلك إن اتفق الأول والثالث واختلف الثاني والرابع فالمثلان أيضاً أصلان. وذلك نحو فرفخ وقرقل وزهزق وجرجم. وكذلك إن اتفق الثاني والرابع واختلف الأول والثالث نحو كربر وقسطاس وهزنبزان وشعلع فالمثلان أيضاً أصلان. وكل ذلك أصل رباعي. وكذلك إن اتفق الأول والرابع واختتلف الثاني والثالث فالمثلان أصلان والكلمة أيضاً من بنات الأربعة. وذلك نحو قربق وصعفصة وسلعوس. وكذلك إن اتفق الأول والثاني واختلف الثالث والرابع فالمثلان أصلان والكلمة أيضاً رباعية. وذلك نحو ديدبون وزيزفون: هما رباعيان كباب ددن وكوكب في الثلاثة. ومثالهما فيعلول كخيسفوج وعيضموز. فهذه حال الرباعي. وكذلك أيضاً إن حصل معك ثلاثة أحرف أصول ومعها مثلان غير ملتقيين فهما أيضاً أصلان وذلك كقولهم زبعبق وشمشليق وشفشليق. فهذه هي الأصول التي يكون فيها المثلان أصلين. وما علمنا أن وراء ما حضرنا وأحضرناه منها مطلوباً فيتعب بالتماسه وتطلبه. فأما متى يكون أحد المثلين زائداً فهو أن يكون معك حرفان أصلان من بعدهما حرفان مثلان فأحدهما زائد. وسنذكر أيهما هو الزائد عقيب الفراغ من تقسيم ذلك. وذلك كمهدد وسردد وجلبب وشملل وصعرر واسحنكك واقعنسس. وكذلك إن كان معك حرفان أصلان بينهما حرفان مثلان فأحد المثلين أيضاً زائد. وذلك نحو سلمن وقلفٍ وكسرَّ وقطع. وكذلك إن فصل بين المثلين المتأخرين عن الأصلين المتقدمين أو المتوسطين بينهما زائد فالحال واحدة. وذلك نحو قردود وسحتيت وصهميم. وقرطاط وصفنات وعثوثل واعشوشب واخلولق. فهذا حكم المثلين بجيئان مع الأصلين. وكذلك إن جاءا بعد الثلاثة الأصول وذلك نحو قفعدد وسهلل وسبحلل وهرشف وعربد وقسحب وقسقب وطرطب. وكذلك إن التقى المثلان حشوا وذلك نحو علكد وهلقس ودبخس وشمخر وضمخر وهمقع وزملق وشعلع وهملع وعدبس وعجنس. وكذلك إن حجز بين المثلين زائد. وذلك نحو جلفزيز وهلبسيس وخربصيص وحندقوق. فهذه الكلم كلها رباعية الأصل وأحد مثليها زائد. فأما همرش فخماسي وميمه الأولى نون وأدغمت في الميم لما لم يخف هناك لبس ألا ترى أنه ليس في بنات الأربعة مثال جعفر فيلتبس به همرش. ولو حقرت همرشاً لقلت هنيمر فأظهرت نونها لحركتها. وكذلك لو استكرهت على تكسيرها لقلت هنامر. ونظير إدغام هذه النون إذا لم يخافوا لبساً قولهم امحي واماز واماع. ولما لم يكن في الكلام افعل علم أن هذا انفعل قال أبو الحسن: ولو أردت مثال انفعل من رأيت ولحزت لقلت: ارأى والحز. فإن قلت: فما تقول في مثل عذور وسنور واعلوط واخروط وهبيخ وهبيغ وجبروة وسمعنة ونظرنة وزونك فيمن أخذه من زاك يزوك وعليه حمله أبو زيد لأنه صرف فعله عقيبه معه فإن هذا سؤال ساقط عنا وذلك أنا إنما كلامنا على ما أحد مثليه زائد ليذكر فإن قيل: فهذا ولكن ما تقول في صمحمح ودمكمك وبابهما قيل: هذا في جملة ما عقدناه ألا ترى أن معك في أول المثال الصاد والميم وهما لفظ أصلين ثم تكرر كل واجد من الثاني والثالث فصار عود الثالث فصار عود الثاني ملحقاً له بباب فعل وعود الثالث ملحقاً له بباب فعلل فقد ثبت أن كل واحد من الحرفين الثاني والثالث قد عاد عليه نفس لفظه كما عاد على طاء قطع لفظها وعلى دال قعدد أيضاً لفظها. فباب فعلعل ونحوه أيضاً ثلاثي كما أن كل واحد من سلم وقطع وقعدد وشملل ثلاثي. وهذا أيضاً جواب من سأل عن مرمريس ومرمريت سؤاله عن صمحمح ودمكمك لأن هذين أولا كذينك آخرا. الآن قد أتينا على أحكام المثلين: متى يكونان أصلين ومتى يكون أحدهما زائداً بما لا تجده متقصي متحجراً في غير كلامنا هذا. وهذا أوان القول على الزائد منهما إذا اتفق ذلك أيهما هو. فمذهب الخليل في ذلك أن الأول منهما هو الزائد ومذهب يونس وإياه كان يعتمد أبو بكر أن الثاني منهما هو الزائد. وقد وجدنا لكل من القولين مذهباً واستوسعنا له بحمد الله مضطرباً. فجعل الخليل الطاء الأولى من قطع ونحوه كواو حوقل وياء بيطر وجعل يونس الثانية منه كواو جهور ودهور. وجعل الخليل باء جلبب الأولى كواو جهور ودهور وجعل يونس الثانية كياء سلقيت وجعبيت. وهذا قدر من الحجاج مختصر وليس بقاطع وإنما فيه الأنس بالنظير لا القطع باليقين. ولكن من أحسن ما يقال في ذلك ما كان أبو علي رحمه الله يحتج به لكون الثاني هو الزائد قولهم: اقعنسس واسحنكك قال: ووجه الدلالة من ذلك أن نون افعنلل بابها إذا وقعت في ذوات الأربعة أن تكون بين أصلين نحو احرنجم واخرنطم. واقعنسس ملحق بذلك فيجب أن يحتذي به طريق ما ألحق بمثاله. فلتكن السين الأولى أصلاكما أن الطاء المقابلة لها من اخرنطم أصل. وإذا كانت السين الأولى من اقعنسس أصلاً كانت الثانية الزائدة من غير ارتياب ولا شبهة. وهذا في معناه سديد حسن جار على أحكام هذه الصناعة. ووجدت أنا أشياء في هذا المعنى يشهد بعضها لهذا المذهب وبعضها لهذا المذهب. فمما يشهد لقول يونس قول الراجز: بني عقيل ماذه الخنافق! المال هدى والنساء طالق فالخنافق جمع خنفقيق وهي الداهية. ولن تخلو القاف المحذوفة أن تكون الأولى أو الثانية فيبعد أن تكون الأولى لأنه لو حذفها لصار التقدير به في الواحد إلى خنفيق ولو وصل إلى ذاك لوقعت الياء رابعة فيما عدته خمسة وهذا موضع يثبت فيه حرف اللين بل يجتلب إليه تعويضاً أو إشباعاً. فكان يجب على هذا خنافيق. فلما لم يكن كذلك علمت أنه إنما حذف القاف الثانية فبقى خنفقي فلما وقعت الياء خامسة حذفت فبقي خنفق فقيل في تكسيره خنافق. فإن قلت: ما أنكرت أن يكون حذف القاف الأولى فبقي خنفيق وكان قياس تكسيره خنافيق غير أنه اضطر إلى حذف الياء كضرورته إلى حذفها في قوله: والبكرات الفسج العطامسا قيل: الظاهر غير هذا وإنما العمل على الظاهر لا على المحتمل. فإذا صح أنه إنما حذف الثانية علمت أنها هي الزائدة دون الأولى. ففي هذا بيان وتقوية لقول يونس. ويقوى قوله أيضاً أنهم لما ألحقوا الثلاثة بالأربعة فقالوا مهدد وجلبب وبدأوا باستعمال الأصلين وهما الميم والهاء والجيم واللام فهذان أصلان لا محالة. فكما تبعت الهاء الميم والهاء أصل كما أن الميم أصل فكذلك يجب أن تكون الدال الأولى أصلاً لتتبع الهاء التي هي أصل. فكما لا يشك أن الهاء أصل تبع أصلاً فكذلك ينبغي أن تكون الدال الأولى أصلاً تبعت أصلاً من حيث تساوت أحوال الأصول الثلاثة وهي الفاء والعين واللام. فلما استوفيت الأصول الثلاثة المقابل بها من جعفر الأصول الأول الثلاثة وبقيت هناك بقية من الأصل الممثل وهي اللام الثانية التي هي الراء استؤنفت لها لام ثانية مكررة وهي الدال الثانية. نعم وإذا كانت اللام الثانية من الرباعي مشابهة بتجاوزها الثلاثة للزائد كان الحرف المكرر الذي هو أجد فهذا كله كما ترى شاهد بقوة قول يونس. فأما ما يشهد للخليل فأشياء. منها ما جاء من نحو فعوعل وفعيعل وفعنلل وفعاعل وفعاعيل نحو غدودن وخفيدد وعقنقل وزرارق وسخاخين. وذلك أنك قد علمت أن هذه المثل التي تكررت فيها العينان إنما يتقدم على الثانية منهما الزائد لا محالة أعني واو فعوعل وياء فعيعل ونون فعنلل وألف فعاعل وفعاعيل. فكما أنهما لما اجتمعا في هذه المثل ما قبل الثانية زائد لا محالة فكذلك ينبغي أن يكونا إذا التقيا غير مفصول بينهما في نحو فَعَّل وفُعّل وفَعَّال وفُعَّال وفٍعِّل وما كان نحو ذلك: الزائدة منهما أيضاً هي الأولى لوقوعها موقع الزوائد مع التكرير فيهما لا محالة. فكما لا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية في فعوعل وبابه فكذلك ينبغي ألا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية مما التقت عيناه نحو فَعَّل وفُعّل وبقية الباب. وهذا واضح. فإن عكس عاكس هذا فقال: إن كان هذا شاهداً لقول الخليل عندك كان هو أيضاً نفسه شاهدا لقول يونس عند غيرك. وذلك أن له أن يقول: قد رأينا العينين في بعض المثل إذا التقتا مفصولة إحداهما من الأخرى فإن ما بعد الأولى منهما زائد لا محالة ويورد هذه المثل عينها نحو عثوثل وخفيدد وعقنقل وبقية الباب فيقول لك: فكما أن ما بعد العين الأولى منها زائد فالجواب أن هذه الأحرف الزوائد في فعوعل وفعيعل وفعنلل وبقية الباب أشبه بالعين الأولى منها بالعين الآخرة وذلك لسكونها كما أن العينين إذا التقتا فالأولى منهما ساكنة لا غير نحو فَعّل وفُعّل وفِعِّيل وبقية الباب ولا نعرف في الكلام عينين التقتا والأولى منهما متحركة ألا ترى أنك لا تجد في الكلام نحو فِعِعْل ولا فُعُعْل ولا فُعُعْل ولا شيئاً من هذا الضرب لم نذكره. فإذا كان كذلك علمت أن واو فعوعل لسكونها أشبه بعين فعل الأولى لسكونها أيضاً منها بعينها الثانية لحركتها فاعرف ذلك فرقاً ظاهراً. ومنها أن أهل الحجاز يقولون للصواغ: الصياغ فيما رويناه عن الفراء وفي ذلك دلالة على ما نحن بسبيله. ووجه الاستدلال منه أنهم كرهوا التقاء الواوين لا سيما فيما كثر استعماله فأبدلوا الأولى من العينين ياء كما قالوا في أما: أيما ونحو ذلك فصار تقديره: الصيواغ فلما التقت الواو والياء على هذا أبدلوا الواو للياء قبلها فقالوا الصياغ. فإبدالهم العين الأولى من الصواغ دليل على أنها هي الزائدة لأن الإعلال بالزائد أولى منه بالأصل. فإن قلت: فقد قلبت العين الثانية أيضاً فقلت صياغ فلسنا نراك إلا وقد أعللت العينين جميعاً فمن جعلك بأن تجعل الأولى هي الزائدة دون الآخرة وقد انقلبتا جميعاً قيل قلب الثانية لا يستنكر لأنه كان عن وجوب وذلك لوقوع الياء ساكنة قبلها فهذا غير بعيد ولا معتذر منه لكن قلب الأولى وليس هناك علة تضطر إلى إبدالها أكثر من الاستخفاف مجرداً هو المعتد المستنكر المعول عليه المحتج به فلذلك اعتمدناه وأنشأنا الاحتجاج للخليل عنه إذ كان تلعباً بالحرف من غير قوة سبب ولا وجوب علة. فأما ما يقوي سببه ويتمكن حال الداعي إليه فلا عجب منه ولا عصمة للحرف وإن كان أصلياً دونه. وإذا كان الحرف زائداً كان بالتلعب به قمنا. واذكر قول الخليل وسيبويه في باب مقول ومبيع وأن الزائد عندهما هو المحذوف أعني واو مفعول من حيث كان الزائد أولى بالإعلال من الأصل. فإن قلت: فما أنكرت أن يكونوا إنما أبدلوا العين الثانية في صواغ دون الأولى فصار التقدير به إلى صوياغ ثم وقع التغيير فيما بعد قيل: يمنع من ذلك أن العرب إذا غيرت كلمة عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم. وذلك أنك تحتاج إلى أن تنيب شيئاً عن شيء فأولى أحوال الثاني بالصواب أن يشابه الأول. ومن مشابهته له أن يوافق أمثلة القوم كما كان المناب عنه مثالاً من مثلهم أيضاً ألا ترى أن الخليل لما رتب أمر أجزاء العروض المزاحفة فأوقع للزحاف مثالاً مكان مثال عدل عن الأول المألوف الوزن إلى آخر مثله في كونه مألوفاً وهجر ما وذلك أنه لما طوى " مُسْ تَفْ عِلُنْ " فصار إلى مُسْ تَعِلُن " ثناه إلى مثال معروف وهو مفتعلن لما كره مُسْتَعِلُنْ إذ كان غير مألوف ولا مستعمل. وكذلك لما ثرم فَعُولُنْ فصار إلى عُولُ وهو مثال غير معروف عدله إلى فَعْلُ. وكذلك لما خبل مُسْتَفْعِلُنْ فصار إلى مُتَعِلُنْ فاستنكر ما بقي منه جعل خالفة الجزء فَعَلَتُنْ ليكون ما صير إليه مثالاً مألوفاً كما كان ما انصرف عنه مثالاً مألوفاً. ويؤكد ذلك عندك أن الزحاف إذا عرض في موضع فكان ما يبقى بعد إيقاعه مثالاً معروفاً لم يستبدل به غيره. وذلك كقبضه مفاعلين إذا صار إلى مفاعلن وككفه أيضاً لما صار إلى مفاعيل فلما كان ما بقي عليه الجزء بعد زحافه مثالاً غير مستنكر أقره على صورته ولم يتجشم تصوير مثال آخر غيره عوضاً منه وإنما أخذ الخليل بهذا لأنه أحزم وبالصنعة أشبه. فكذلك لما أريد التخفيف في صواغ أبدل الحرف الأول فصار من صيواغ إلى لفظ فيعال كفيداق وخيتام. ولو أبدل الثاني لصار صوياغ إلى لفظ فيعال وفعْيال مثال مرفوض. فإن قلت كان يصير من صوياغ إلى لفظ فوعال قيل قد ثبت أن عين هذه الكلمة واو فصوياغ إذاً لو صير إليه لكان فعيالا لا محالة فلذلك قلنا: إنهم أبدلوا العين الأولى ياء ثم إنهم أبدلوا لها العين الثانية وإذا كان المبدل هو الأول لزم أن يكون هو الزائد لأن حرمة الزائد أضعف من حرمة فهذا أيضاً أحد ما يشهد بصحة قول الخليل. ومنها قولهم: صَمَحْمَح ودَمَكْمَك فالحاء الأولى هي الزائدة وكذلك الكاف الأولى وذلك أنها فاصلة بين العينين والعينان متى اجتمعتا في كلمة واحدة مفصولاً بينهما فلا يكون الحرف الفاصل بينهما إلا زائداً نحو عثوثل وعقنقل وسلالم وخفيفد. وقد ثبت أيضاً بما قدمناه قبيل أن العين الأولى هي الزائدة. فثبت إذاً أن الميم والحاء الأوليين في صمحمح هما الزائدتان وأن الميم والحاء الأخريين هما الأصلان. فاعرف ذلك فإنه مما يحقق مذهب الخليل. ومنها أن التاء في تفعيل عوض من عين فعال الأولى والتاء زائدة فينبغي أن تكون عوضاً من زائد أيضاً من حيث كان الزائد بالزائد أشبه منه بالأصلي. فالعين الأولى إذاً من قطاع هي الزائدة لأن تاء تقطيع عوض منها كما أن هاء تفعلة في المصدر عوض من ياء تفعيل وكلتاهما زائدة. فليس واحد من المذهبين إلا وله داع إليه وحامل عليه. وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلا بعد تأمله وإنعام الفحص عنه. والتوفيق تبالله عز وجل.
اعلم أن كل لفظين وجد فيهما تقديم وتأخير فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صابحه فهو القياس الذي لا يجوز غيره. وإن لم يمكن ذلك حكمت بأن أحدهما مقلوب عن صاحبه ثم أريت أيهما الأصل وأيهما الفرع. وسنذكر وجوه ذلك. فمما تركيباه أصلان لا قلب فيهما قولهم: جذب وجبذ ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه. وذلك أنهما جميعاً يتصرفان تصرفاً واحداً نحو جذب يجذب جذباَ فهو جاذب والمفعول مجذوب وجبذ يجبذ جبذاً فهو جابذ والمفعول مجبوذ. فإن جعلت مع هذا أحدهما أصلاً لصاحبه فسد ذلك لأنك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعد بهذه الحال من الآخر. فإذا وقفت الحال بينهما ولم يؤثر بالمزية أحدهما وجب أن يتوازيا وأن يمثلا بصفحتيهما معاً. وكذلك ما هذه سبيله. فإن قصر أجدهما عن تصرف صاحبه ولم يساوه فيه كان أوسعهما تصرفاً أصلاً لصاحبه. وذلك كقولهم أنى الشيء يأني وآن يئين. فآن مقلوب عن أنى. والدليل على ذلك وجودك مصدر أنى يأنى وهو الإنَى ولا تجد لآن مصدراً كذا قال الأصمعي. فأما الأين فليس من هذا في شيء إنما الأين: الإعياء والتعب. فلما قال الأصمعي. فأما الأين فليس من هذا في شيء إنما الأين: الإعياء والتعب. فلما عدم من آن المصدر الذي هو أصل للفعل علم أنه مقلوب عن أنى يأنى إنىً قال الله تعالى قال أبو علي: ومنه سموا الإناء لأنه لا يستعمل إلا بعد بلوغه حظه من خرزه أو صياغته أو نجارته أو نحو ذلك. غير أن أبا زيد قد حكى لآن مصدراً وهو الأين. فإن كان الأمر كذلك فهما إذاً أصلان متساويان وليس أحدهما أصلاً لصاحبه. ومثل ذلك في القلب قولهم أيست من كذا فهو مقلوب من يئست لأمرين ذكر أبو علي أحدهما وهو ما ذهب إليه من أن أيست لا مصدر له وإنما المصدر ليئست وهو اليأس واليآسة. قال: فأما قولهم في اسم الرجل إياس فليس مصدراً لأيست ولا هو أيضاً من لفظه وإنما هو مصدر أست الرجل أؤوسه إياساً سموه به كما سموه عطاء تفاؤلا بالعطية. ومثل ذلك عندى تسميتهم إياه عياضاً وإنما هو مصدر عضته أي أعطيته قال: عاضها الله غلاماً بعد ما شابت الأصداغ والضرس نقد عطف جملة من مبتدأ وخبر على أخرى من فعل وفاعل أعني قوله: والضرس نقد أي ونقد الضرس. وأما الآخر فعندي أنه لو لم يكن مقلوباً لوجب إعلاله وأن يقول: إست أآس كهبت أهاب. فظهوره صحيحاً يدل على أنه إنما صح لأنه مقلوب عما تصح عينه وهو يئست لتكون الصحة دليلاً على ذلك المعنى كما كانت صحة عور دليلاً على أنه في معنى ما لا بد من صحته وهو أعور. فأما تسميتهم الرجل أوسا فإنه يحتمل أمرين أحدهما أن يكون مصدر أسته أي أعطيته كما سموه عطاء وعطية. والآخر أن يكون سموه به كما سموه ذئباً. فأما ما أنشدناه من قول الآخر: لي كل يوم من ذواله ضغث يزيد على إباله فلا حشأنك مشقصاً أوسا أويس من الهباله فأوساً منه ينتصب على المصدر بفعل دل عليه قوله: لأحشأنك فكأنه قال لأؤوسنك أوساً كقول الله سبحان وأما قوله أويس فنداء أراد: يا أويس يخاطب الذئب وهو اسم له مصغراً كما أنه اسم له مكبر قال: فأما ما يتعلق به " من " فإن شئت علقته بنفس أوسا ولم يعتدد بالنداء فاصلاً لكثرته في الكلام وكونه معترضاً به للتسديد كما ذكرنا من هذا الطرز في باب الاعتراض في قوله: يا عمر الخير جريت الجنه اكس بنياتي وأمهنه أو يا أبا حفص لأمضينه فاعترض بالنداء بين " أو " والفعل. وإن شئت علقته بمحذوف يدل عليه أوسا فكأنه قال: أؤوسك من الهبالة أي أعطيك من الهبالة. وإن شسئت جعلت حرف الجر هذا وصفاً لأوساً فعلقته بمحذوف وضمنته ضمير الموصوف. ومن المقلوب قولهم امضحل وهو مقلوب عن اضمحل ألا ترى أن المصدر إنما هو على اضمحل وهو الاضمحلال ولا يقولون: امضحلا. وكذلك قولهم: اكفهر واكرهف الثاني مقلوب عن الأول لأن التصرف على اكفهر وقع ومصدره الاكفهرار ولم يمرر بنا الأكرهفاف قال النابغة: أو فازجروا مكفهراً لا كفاء له كالليل يخلط أصراماً بأصرام وقد حكى بعضهم مكرهف. فإن ساواه في الاستعمال فهما على ما ترى أصلان. ومن ذلك: هذا لحم شخم وخشم وفيه تشخيم ولم أسمع تخشيم. فهذا يدل على أن شخم أصل ومن ذلك قولهم: اطمأن. ذهب سيبويه فيه إلى أنه مقلوب وأن أصله من طأمن وخالفه أبو عمر فرأى ضد ذلك. وحجة سيبويه فيه أن طأمن غير ذي زيادة واطمأن ذو زيادة والزيادة إذا لحقت الكلمة لحقها ضرب من الوهن لذلك وذلك لأن مخالطتها شيء ليس من أصلها مزاحمة لها وتسوية في التزامه بينها وبينه وهو وإن لم تبلغ الزيادة على الأصول فحش الحذف منها فإنه على كل حال على صدد من التوهين لها إذ كان زيادة عليها تحتاج إلى تحملها كما يتحامل بحذف ما حذف منها. وإذا كان في الزيادة طرف من الإعلال للأصل كان أن يكون القلب مع الزيادة أولى. وذلك أن الكلمة إذا لحقها ضرب من الضعف أسرع إليها ضعف آخر وذلك كحذفهم ياء حنيفة في الإضافة إليها لحذف تائها في قولهم حنفي ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فيحذف ياؤها جاء في الإضافة إليه على أصله فقالوا: حنيفى. فإن قال أبو عمر: جرى المصدر على اطمأن يدل على أنه هو الأصل وذلك قولهم: الاطمئنان قيل: قولهم الطأمنة بإزاء قولك: الاطمئنان فمصدر بمصدر وبقي على أبي عمر أن الزيادة جرت في المصدر جريها في الفعل. والعلة في الموضعين واحدة. وكذلك الطمأنينة ذات زيادة فهي إلى الاعتلال قرب. ولم يقنع أبا عمر أن يقول: إنهما أصلان متقاودان كجبذ وجذب حتى مكن خلافه لصاحب الكتاب بأن عكس الأمر عليه البتة. وذهب سيبويه في قولهم أينق مذهبين: أحدهما أن تكون عين أنوق قلبت إلى ما قبل الفاء فصارت في التقدير أونق ثم أبدلت الواو ياء لأنها كما أعلت بالقلب كذلك أعلت أيضاً بالإبدال على ما مضى والآخر أن تكون العين حذفت ثم عوضت الياء منها قبل الفاء. فمثالها على هذا القول أيفل وعلى القول الأول أعفل. وذهب الفراء في الجاه إلى أنه مقلوب من الوجه. وروينا عن الفراء أنه قال: سمعت أعرابية من غطفان وزجرها ابنها فقلت لها: ردي عليه فقالت: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا. قال: وهو من الوجه أرادت: يواجهني. وكان أبو علي رحمه الله يرى أن الجاه مقلوب عن الوجه أيضاً. قال: ولما أعلوه بالقلب أعلوه أيضاً بتحريك عينه ونقله من فَعْلٍ إلى فَعَل يريد أنه صار من وجه إلى جَوْهٍ ثم حركت عينه فصار إلى جَوَهٍ ثم أبدلت عينه لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار جاه كما ترى. وحكى أبو زيد: قد وجه الرجل وجاهة عند السلطان وهو وجيه. وهذا يقوي القلب لأنهم لم يقولوا جَوِيه ولا نحو ذلك. ومن المقلوب قِسِيّ وأشياء في قول الخليل. وقوله: مروان مروان أخو اليوم اليمي فيه قولان: أحدهما أنه أراد: أخو اليوم السهل اليوم الصعب يقال يوم أيوم ويوم كأشعث وشعث وأخشن وخشن وأوجل ووجل فقلب فصار يمو فانقلبت العين لانكسار ما قبلها طرفا. والآخر أنه أراد: أخو اليوم اليوم كما يقال عند الشدة والأمر العظيم: اليوم اليوم فقلب فصار اليمو ثم نقله من فَعْل إلى فَعِل كما أنشده أوب زيد من قوله: علام قتل مسلم تعبدا مذ سنة وخَمِسون عددا يريد خَمْسونَ فلما انكسر ما قبل الواو قلبت ياء فصار اليَمِى. هذان قولان فيه مقولان. ويجوز عندي فيه وجه ثالث لم يقل به. وهو أن يكون أصله على ما قيل في المذهب الثاني: أخو اليوم اليوم ثم قلب فصار اليَمْوُ ثم نقلت الضمة إلى الميم على حد قولك: هذا بَكُرْ فصارت اليَمُو فلما وقعت الواو طرفا بعد ضمة في الاسم أبدلوا من الضمة كسرة ثم من الواو ياء فصارت اليَمِى كأحقٍ وأدْلٍ. فإن قيل: هلا لم تُستنكَر الواو هنا بعد الضمة لما لم تكن الضمة لازمة قيل: هذا وإن كان على ما ذكرته فإنهم قد أجروه في هذا النحو مجرى اللازم ألا تراهم يقولون على هذه اللغة: هذه هند ومررت بجمل فيتبعون الكسر الكسر والضم الضم كراهية للخروج من كسرة هاء هند إلى ضمة النون وإن كانت الضمة عارضة. وكذلك كرهوا مررت بجمل لئلا يصيروا في الأسماء إلى لفظ فِعلُ. فكما أجروا النقل في هذين الموضعين مجرى اللازم فكذلك يجوز أن يجرى اليمو مجرى أدلو وأحقو فيغيركما غيرا فقيل اليمى حملا على الأدلى والأحقي. فإن قيل: نحو زيد وعون لا ينقل إلى عينه حركة لامه واليوم كعون قيل جاز ذلك ضرورة لما يعقب من صلاح القافية وأكثر ما فيه إجراء المعتل مجرى الصحيح لضرورة الشعر. ومن المقلوب بيت القطامي: ما اعتاد حب سليمى حين معتاد ولا تقصى بواقي دينها الطادي هو مقلوب عن الواطد وهو الفاعل من وطد يطد أي ثبت. فقلب عن فاعل إلى عالف. ومثله عندنا الحادي لأنه فاعل من وحد وأصله الواحد فنقل عن فاعل إلى عالف سواء فإنقلبت الواو التي هي في الأصل فاء ياء لانكسار ما قبلها في الموضعين جميعاً. وحكى الفراء: معي عشرة فأحدهن لي أي اجعلهن أحد عشر فظاهر هذا يؤنس بأن الحادي فاعل. والوجه إن كان المروي صحيحاً أن يكون الفعل مقلوباً من وحدت إلى حدوت وذلك أنهم لما رأوا الحادي في ظاهر الأمر على صورة فاعل صار كأنه جارٍ على حدوت جريان غازٍ على غزوت كما أنهم لما استمر استعمالهم الملك بتخفيف الهمزة صار كأن مَلَكا على فَعَل فلما صار اللفظ بهم إلى هذا بنى الشاعر على ظاهر أمره فاعلاً منه فقال حين ماتت نساؤه بعضهن إثر بعض: غدا مالك يرمي نسائي كأنما نسائي لسهمي مالكٍ غرضان يعني ملك الموت ألا تراه يقول بعد هذا: فيا رب عمر لي جهيمة أعصرا فمالك الموت بالقضاء دهاني وهذا ضرب من تدريج اللغة. وقد تقدم الباب الذي ذكرنا فيه طريقه في كلامهم فليضمم هذا إليه فإنه كثير جداً. ومثل قوله فاحْدُهُنَّ في أنه مقلوب من وحد قول الأعرابية: أخاف أن يَجُوهَني وهو مقلوب من الوجه. فأما وزن مالك على الحقيقة فليس فاعلاً لكنه ما فل ألا ترى أن أصل ملك ملأك: مفعل من تصريف ألكني إليها عمرك الله وأصله ألئكني فخففت همزته فصار ألكني كما صار ملأك بعد التخفيف إلى ملك ووزن مَلَك مَفَل. ومن طريف المقلوب قولهم للقطعة الصعبة من الرمل تَيْهُورة وهي عندنا فَيْعُولة من تهور الجرف وانهار الرمل ونحوه. وقياسها أن تكون قبل تغييرها هَيْوُورة فقدمت العين وياء فيعول إلى ما قبل الفاء فصارت وَيْهُورة ثم أبدلت الواو التي هي عين مقدمة قبل الياء تاء كتَيْقُور فصارت تيهورة كما ترى. فوزنها على لفظها الآن عيفولة. أنشدنا أبو علي: خليلي لا يبقى على الدهر فادر بتيهورة بين الطخا فالعصائب ويروى: الطخاف العصائب فهذا قول وهو لأبي علي رحمه الله. ويجوز عندي أن تكون في الأصل أيضاً تفعولة كتعضوضة وتدنوبة فيكون أصلها على هذا تهوورة فقدمت العين على الفاء إلى أن صار وزنها تعفولة وآل اللفظ بها إلى توهورة فأبدلت الواو التي هي عين مقدمة ياء كما أبدلت عين أينق لما قدمت في مذهبي الكتاب ياء فنقلت من أنوق إلى أونق ومن أونق تقديراً إلى أينق لأنها كما أعلت بالقلب كذا أعلت بالإبدال فصارت أينقا. وكذلك صارت توهورة إلى تيهورة. وإن شئت جعلتها من الياء لا من الواو فقد حكى أبو الحسن عنهم: هار الجرف يهير. ولا تحمله على طاح يطيح وتاه يتيه في قول الخليل لقلة ذلك ولأنهم قد قالوا أيضاً: تهير الجرف في معنى تهور وحمله على تفعل أولى من حمله على تفيعل كتحيز. فإذا كانت تيهورة من الياء على هذا القول فأصلها تهيورة ثم قدمت العين التي هي الياء على الفاء فصار تيهورة. وهذا القول إنما فيه التقديم من غير إبدال. وإنما قدمنا القول الأول وإن كانت كلفة الصنعة فيه أكثر ويجوز فيه عندي وجه ثالث وهو أن يكون في الأصل يفعولة كيعسوبٍ ويربوعٍ فيكون أصلها يهوورة ثم قدمت العين إلى صدر الكلمة فصارت ويهورة: عيفولة ثم أبدلت الواو التي هي عين مقدمة تاء على ما مضى فصارت تيهورة. ودعانا إلى اعتقاد القلب والتحريف في هذه الكلمة المعنى المتقاضيته هي. وذلك أن الرمل مما ينهار ويتهور ويهور ويهير ويتهير. فإن كسرت هذه الكلمة أقررت تغييرها عليها كما أن أينقا لما كسرتها العرب أقرتها على تغييرها فقالت: أيانق. فقياس هذا أن تقول في تكسير تيهورة على كل قول وكل تقدير: تياهير. وكذلك المسموع عن العرب أيضاً في تكسيرها. والقلب في كلامهم كثير. وقد قدمنا في أول هذا الباب أنه متى أمكن تناول الكلمة على ظاهرها لم يجز العدو عن ذلك بها وإن دعت ضرورة إلى القول بقلبها كان ذلك مضطراً إليه لا مختاراً.
اعلم أن هذا الباب لاحق بما قبله وتال له. فمتى أمكن أن يكون الحرفان جميعاً أصلين كل واحد منهما قائم برأسه لم يسغ العدول عن الحكم بذلك. فإن دل دال أو دعت ضرورة إلى القول بإبدال أحدهما من صاحبه عمل بموجب الدلالة وصير إلى مقتضى الصنعة. ومن ذلك سكر طبرزل وطبرزن: هما متساويان في الاستعمال فلست بأن تجعل أحدهما أصلاً لصاحبه أولى منك بحمله على ضده. ومن ذلك قولهم: هتلت السماء وهتنت: هما أصلان ألا تراهما متساويين في التصرف يقولون: هتنت السماء تهتن تهتاناً وهتلت تهتل تهتالاً وهي سحائب هتن وهتل قال امرؤ القيس: فسحت دموعي في الرداء كأنها كلى من شعيب ذات سح وتهتان وقال العجاج: عزز منه وهو معطى الإسهال ضرب السواري متنه بالتهتال ومن ذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم: دهمج البعير يدهمج دهمجة ودهنج يدهنج دهنجة إذا قارب الخطو وأسرع وبعير دهامج ودهانج وأنشد للعجاج: كأن رعن الآل ممنه في الآل بين الضحا وبين قيل القيال إذا بدا دهانج ذو أعدال وأنشد أيضاً: # وعير لها من بنات الكداد يدهنج بالوطب والمزود فأما قولهم: ما قام زيد بل عمرو وبن عمرو فالنون بدل من اللام ألا ترى إلى كثرة استعمال بل وقلة استعمال بن والحكم على الأكثر لا على الأقل. هذا هو الظاهر من أمره. ولست مع هذا أدفع أن يكون بن لغة قائمة برأسها. وكذلك قولهم: رجل خامل وخامن النون فيه بدل من اللام ألا ترى أنه أكثر وأن الفعل عليه تصرف وذلك قولهم: خمل يخمل خمولاً. وكذلك قولهم: قام زيد فم عمرو الفاء بدل من الثاء في ثم ألا ترى أنه أكثر استعمالاً. فأما قولهم في الأثافي: الأثاثي فقد ذكرناه في كتابنا في سر الصناعة وقال الأصمعي: بنات مخر وبنات بخر: سحائب يأتين قبل الصيف بيض منتصبات في السماء قال طرفة: كبنات المخر يمأدن إذا أنبت الصيف عساليج الخضر قال أبو علي رحمه الله: كان أبو بكر يشتق هذه الأسماء من البخار فالميم على هذا في مخر بدل من الباء في بخر لما ذكر أبو بكر. وليس ببعيد عندي أن تكون الميم أصلاً في هذا أيضاً وذلك لقول الله سبحانه: شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج فهذا يدل على مخالطة السحائب عندهم البحر وتركضها فيه وتصرفها على صفحة مائه. وعلى كل حال فقول أبي بكر أظهر. ومن ذلك قولهم: بلهلة بن أعصر ويعصر فالياء في يعصر بدل من الهمزة في أعصر يشهد بذلك ما ورد به الخبر من أنه إنما سمي بذلك لقوله: أبني إن أباك غير لونه كر الليالي واختلاف الأعصر يريد جمع عصر. وهذا واضح. فأما قولهم: إناء قربان وكربان إذا دنا أن يمتلئ فينبغي أن يكونا أصلين لأنك تجد لكل واحدة مهما متصرفاً أي قارب أن يمتلئ وكرب أن يمتلئ إلا أنهم قد قالوا: جمجمة قربى ولم نسمعهم قالوا كربى. فإن غلبت القاف على الكاف من هنا فقياس ما. وقال الأصمعي: يقال: جعشوش وجعسوس وكل ذلك إلى قمأةٍ وقلةٍ وصغر ويقال: هم من جعاسيس الناس ولا يقال بالشين في هذا. فضيق الشين مع سعة السين يؤذن بأن الشين بدل من السين. نعم والاشتقاق يعضد كون السين غير معجمة هي الأصل وكأنه أشتق من الجعس صفة على فعلول وذلك أنه شبه الساقط المهين من الرجل بالخرء لذله ونتنه. ونحو من ذلك في البدل قولهم: فسطاط وفستاط وفساط وبكسر الفاء أيضاً فذلك ست لغات. فإذا صاروا إلى الجمع قالوا فساطيط وفساسيط ولا يقولون فساتيط بالتاء. فهذا يدل أن التاء في فستاط إنما هي بدل من طاء فسطاط أو من سين فساط. فإن قلت: هلا اعتزمت أن تكون التاء في فستاط بدلاً من طاء فسطاط لأن التاء أشبه بالطاء منها بالسين قيل بإزاء ذلك أيضاً: إنك إذا حكمت بأنها بدل من سين فساط ففيه شيئان جيدان: أحدهما تغيير للثاني من المثلين وهو أقيس من تغيير الأول من المثلين لأن الاستكراه في الثاني يكون لا في الأول والآخر أن السينين في فسّاط ملتقيتان والطاءين في فسطاط منفصلتان بالألف بينهما واستثقال المثلين ملتقيين أحرى من استثقالهما مفترقين وأيضاً فإن السين والتاء جميعاً مهموستان والطاء مجهورة. فعلى هذا الاعتبار ينبغي أن يتلقى ما يرد من حديث الإبدال إن كان هناك إبدال أو اعتقاد أصلية الحرفين إن كانا أصلين. وعلى ما ذكرناه في الباب الذي قبل هذا ينبغي أن تعتبر الكلمتان في التقديم والتأخير نحو اضمحل وامضحل وطأمن واطمأن. والأمر واسع. وفيما أوردناه من مقاييسه كاف بإذن الله. ونحن نعتقد إن أصبنا فسحة أن نشرح كتاب يعقوب بن السكيت في القلب والإبدال فإن معرفة هذه الحال فيه أمثل من معرفة عشرة أمثال لغته وذلك أن مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس. قال لي أبو علي رحمه الله بحلب سنة ست وأربعين: أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس. ومن الله المعونة وعليه الاعتماد.
|